الخميس، 2 مارس 2023

غيابة الجب

 


غيابة الجب

 

     أكتب اليك اليوم بعد مدة طويلة جدا، أظنني استجمعت بعض القوة لأقف أمامك الآن وأخبرك أنني فهمتك، لقد عرفت الكثير والكثير وتغيرت جدا لدرجة لا أظن أنك ستتعرف علي بعدها، خاصة أن وجهي وأنت تلقيني في غيابة الجب هو آخر ماتتذكره عني، لقد كرهتك جدا في تلك اللحظة كما كرهتني أنت لكن يالها من حياة ويالها من سخرية أنه يجب أن تظلم لتنير، وأن تعيش التيه لتجد طريقك، وأنه يجب أن أكرهك أولا لأحبك بعدها وأسامحك، وأنتهي بأن أشكرك.

 هي الحياة هكذا لن تصل مكانا جديدا بدورانك، وانما ستعود أنت الجديد من حيث بدأت.

                                                         ****

     أراك الآن وأنت متمثل في مرآة أمامي بملامح مثل كل الصغار الذين لا يعرفون كيف يجبرون الأشياء على التعاطف معهم فارغة حزينة أمام كل حادث، لا أدري كم مر عليك من وقت فقد توقفت عن حساب الوقت  وتصوره كخط مستقيم يتمدد الى الأمام منذ مدة، وأدركت أن هذا الحساب سيكون فقط هدرا لجمال الحياة، فكما يمكنني أن أعيش سنة كاملة في يوم واحد، يمكنني أن أعيش يوما في سنة، لهذا صرت أخاف أن يمر عمري دون أن أكبر، وربما أصغر وأكون ممن قيل فيهم عصى هواه صغيرا وأطاعه كبيرا فليته ولد كبيرا ثم عاد صغيرا أمام هاته الحياة التي تنزف منا كل لحظة مع فارق أن امتلائها أحيانا يكون أكثر من نزيفها، لذا يجب أن لا أحزن على الأول وأركز عليه بسوداويتي فأضيع الثاني وتمر أمامي كل البهجة والجمال فلا أفلح في اصطياد لحظاتهما كما كنت أفعل دائما.

     هكذا أصبحت.. ما يزعجني أصبح أكثر ما أحبه فقط لأنني فهمت قليلا ولا أدعي هذا ولا أزكي نفسي ولكنني رأيت فعلمت وجربت فعرفت وقارنت فأيقنت، لذا لا تحزن علي ان أخبرتك في لحظة ما أنه لا معنى لوجودي لما أحس بثقل روحي علي، لأنني سأمضي في جميع الحالات دون أن أثقل رأسي كثيرا باحثا عن اللحظة القادمة التي ستحمل كل المعاني، لا أخفيك أنني لازلت أحمل نفس أمنيتنا السابقة بأنه لو كان تفكيرنا ببطننا لا برأسنا لاستطعنا أن نجد بعض الفسحة لنفرح، لكنني أضحك علينا وألعن هذا الحلم لما أرى من حققوه! يستفزونني بكلامهم الذي يملؤونه منطقا وعقلانية عندما يربطون كل شيء بالخبز مهما كانت مقدمتهم لهذا من سلامة ومن عقل، لكن تبا له من عقل!

    ألسنا نقرأ للعلماء ذوي العقول لما يخبروننا أن السماء هي قبة سماوية تقع فوق الأرض كغلاف جوي لها.. لماذا اذن يبدو لنا قول الشعراء أنها غطاء العشاق، ونجومها البراقة هي مساكن كل من فارقونا يراقبوننا من أعلى أقرب الينا، ألا يعني هذا أننا قلب وقليل من جسد؟ ألا يعني هذا أنه يجب أن نقف انتصارا لمبادئنا دون تفكير في حياتنا وطعامنا؟ أليس هذا شيئا نعرفه دون أن نحتاج درسا؟ ثم دعنا من كل هذا ألسنا نخاف أيضا؟ ألسنا نملك ما نخسره أيضا ان نحن لم نعش وفق ما يرتضونه لنا أو إذا عارضناهم؟ بهذا أتذكر لما كنا نكره خوفنا ونراه عارا فنتصنع الشجاعة ونتصرف وفقها لكننا لما نتحاور نخبر بعضنا الحقيقة أننا جبناء لكنهم فقط لا يعلمون.. دعني أخبرك الآن أن الجميع يخاف لكن قليلا فقط من يقفز على خوفه هذا ليفعل عكس ما يقوله له صوت عقله وهذا عين الشجاعة، والا لكان جنونا.

                                                         *****

     لن تصدق كم الأشياء التي لم نكن نعرف عنها شيئا ونحن من ظننا أن خبرنا كل شيء، لتعرف كيف أننا نبتلى بالشقاء بنصف العلم لا بالجهل أو المعرفة، نبتلى عندما نقول عرفنا لا عندما نستمر بالتعلم،   يتمثل أمامي أرسطو جالسا مقابلا النهر يوما كاملا لا يفعل شيئا غير التفكير والتأمل ليعود الى بيته مبتهجا جدا، وأحسبه أنا ينظر لكل شيء بعين غير التي جلس بها أول النهار شاكرا نعمة عقله ونحن هنا نلعن التفكير الزائد ونسمي بعضنا مرضى، فاليوم لا يحزنني الا هذا الأمر، كان يمكننا أن نحظى بهذا النقاش بينا كل هذا الوقت الذي بذلناه نلعن بدلا من أن نفهم، كان يمكننا اختصار الطريق كثيرا لكن ربما هذه هي الحياة وربما هذه هي الطريق الوحيدة للوصول للدرب المزهر الجميل. ..

    كيف لي أن أقنعك أنني أبتهج بكل شيء الآن! بالجو الماطر الكئيب وباهتمام غريب، بالعدم أحيانا وبالمعنى أحيانا أخرى قد لا تفهم الآن ما سأخطه فكله تناقضات لكنك ستعيش وترى ما رأيت، ستعيش تلك اللحظات التي ستخرج فيها روحك من قبر جسدك وتتحرر فيها من حواسك الخمس لتدرك أنك تملك ألف حاسة وحاسة، كيف سترى العالم بعين أوسع كمسرح كبير الجميع فيه يتصنع التمثيل بطريقة احترافية تخدع الجميع لكنها لا تخدعك، في تلك اللحظة ستترفع عنهم وعن هاته المأساة الواقعة أمامك ستسخر من الجميع ومنا أكثر،

    ستتذكر كم مشهدا تنافست فيه على البطولة في زاوية صغرى لتدرك أنك لم تكن الا كومبارس ملأ بك مشهد أكبر وستدرك حجم مأساتنا، حينها فقط ستشرق الشمس من عينك اليمنى وتغرب من اليسرى ويزهر الربيع في عقلك وقلبك لتتمنى البقاء في دور المشاهد دائما، لكنك رغم هذا ستدفن روحك بيدك وتنضم للمشهد مرة أخرى، فنحن رغم كل شيء لم نستطع بعد أن نلبس بساطة القروي نغني تراتيلها معه، لأنها وحدها من ستنزع عنا ألف شك سيسمح لنا بأن نؤمن مرة واحدة ليست كأي ايمان وأن نستلقي على ظهر الماء سامحين للتيار أن يحملنا دون أن نخاف من الغرق، نسير اليها ونبحث ونقرأ ونسافر لكن كل شيء نفعله لا يزيدنا الا تعقيدا فقط، لكن هي هكذا..

    فقط لا تبتأس من إعادة البحث لأنك ستصل يوما ما، ولا تصدق الحمقى الذين يمجدون الشك ويعيرون اليقين فهذا جبن فقط عن المواجهة وعن اتخاذ موقف يحيون لأجله كما يمكن أن يموتوا.. هل رأيت أنني أصبحت أكثر لطفا معك؟ فلقد وجدت أن ذلك السوط الذي وضعناه خلفنا ليجبرنا على الكفاح دائما ان نحن تراجعنا او تعبنا ليس هو الحل، ويمكننا أن نستبدله بأشياء كثيرة تفتح أعيننا اذا نحن حاولنا اغلاقها.

 

                                                       ****

     ثم ألا تتذكر كيف أنني جعلت العالم هدفي! اليوم أكتشف تفاهته وأن تغييره هدف أتفه منه مادام يمكنك أن تستغني عنه بتغيير عوالم ببساطة، بابتسامة، بنصيحة لأحدهم تقلب عالمه البائس بهجة ولقد جربت هذا،

    أخبرك أن العالم أبسط مما كنا نتوقع ونراه، لعلك استطعت ملاحظة تطوري وكيف أنني كنت أبحث عن الخلود، وأخاف أن أنسى لأجد نفسي اليوم وقد زالت كل مخاوفي أكتشف كيف أنه يمكنني أن أكتفي عن هذا الهدف بأن أكون فقط ذكرى جميلة في ذهن من أحب يبتسم عندما يتذكرني، ويتبدد مع ابتسامته كل ألم، ليس تبدد المنكر وانما المتذوق الذي يصبح كل شيء يصيبه مكونا في وصفة أجمل لا تكتمل الا بالملح قبل السكر،

    لا أخبرك أن الأمور أصبحت بخير معي.. لا! أنا فقط أصبحت بخير مع كل شيء يأتيني، تعلمت التعامل مع كل شيء وتذوقه، اللهم الا الفراق الذي لم أجد طريقي لقبوله ولم أجد له معنى، لكنني لا زلت أحاول وهذه هي الحياة مسير وطريق لا وصول وانتهاء.

 

                                                         ****

 

      الآن دعني أعود لك للبئر غيابة الجب تلك التي ألقيتني فيها ولم تظن يوما أنه سيلتقطني بعض السيارة الآن أمتلك بعض الشجاعة لأفكر فيها، وأحادثك حولها بعد أن تجنبتها زمنا طويلا، كيف كان وجهك والظلمة التي تلته متلازمين في رأسي مدة طويلة لدرجة جعلتني أنسى كل النور الذي وجدت بعدهما،

     كيف وجدت دفئ ونور الهي بعد أن برد وأظلم كل شيء علي، هذا الذي يجعلني اليوم ربما لا أستطيع اقناع أحدهم بوجوده لكن لن يستطيع أحد أيضا اقناعي بالعكس، لأنني عشت اللحظة التي تسقط فيها في الهاوية وتظن أنك يجب أن تلامس قاعها لتستطيع الصعود مرة أخرى لكنك تكتشف أنه لا قاع هنا وأنك ستستمر بالسقوط ما لم يشملك لطفه وترجعك يده، كيف أنه في لحظة واحدة سيستحيل كل شيء الى عكسه برحمته، من الغرق الى الطيران ومن التردي في الهاوية الى السقوط لأعلى دون رفرفة وجهد ودون أن تدرك أنت حتى هذا،

    تجد نفسك تحلق مع النجوم التي أخبرونا أن مصير ساكنها من مصيرها وحدة وبعد وبرودة! لكنها ليست كذلك أبدا وحدة عن الضعيف وقربا من القوي وبردا وسلاما من العظيم، هو ليس شيئا مفهوما لكن تذكر أنني أخبرتك أن هناك ما هو أكبر من حواسنا، وما يمكن ان نعيشه فقط دون أن نفهمه، ما دمنا في قبر جسدنا، ويا سعادتنا لو متنا قبل أن نموت وخرجنا وعرفنا هذا!

                                                    ****

     كتبت اليك اليوم لا لأشيعك وأدفنك وانما لأتذكر أيامي معك وأطوي صفحتنا دون أن أمسحها وأقطع كتابنا فكل ما كان فصل واحد ولازال أمامنا ما يمكن لنا به أن نصلح أحوالنا بعيدا عن خصامنا الدائم الذي يخرج فيه المنتصر خاسرا بيننا،

    فأنت لم تعد عدوا لي بعد اليوم ولا غريبا عني. وكل ما أوده الآن أن أستمتع بصحبتك دون تضييع لوقتنا الثمين في النظر للوراء وتعويض ما فاتنا فيم تبقى لنا من وقت، فكل ما فعلته أنت كان كرها لكل شيء غيري، وكان كل الحب لي أنا، بطريقة فهمتها أنا الآن تجعلني لا أود حتى أن أذكر الصفح أو المغفرة على ما فات لأن كل شيء أدى الى طريق أجمل فقط فشكرا لك.

   أعرف أنك ستكون بخير لما تصلك رسالتي هاته فقط أدعو لك بقوة على قوة وفهم على فهم الى أن نلتقي ذات يوم.

                                     أنت أنا، ولا أريد أن أنسى هذا بعد اليوم.

 

 دمت بخير يا رفيقي.